على خلاف المحاضرات التقليدية التي تجد فيها المحاضر يقدم محاضرته أمام جمهور ينصت باهتمام، فإن هذا النوع الجديد من المحاضرات يجمع طيفا من الأشكال الأدبية والعلمية والثقافية والفنية. هذه العروض المعرفية لا يعرف الملل إليها سبيلا.
كما يشير الاسم، فإن العروض المعرفية هي مزيج من الحفلات والمحاضرات، أي أنها تقدم المعارف الثقافية بشكل فني. المحاضرات التقليدية هي لمحاضرين يخاطبون الجمهور من خلال تقديم معلومات في اتجاه واحد وحول موضوع واحد ومحدد في العادة. مثل هذا النوع من المحاضرات في زماننا هذا قد يكون مملا، أما الشكل الجديد من المحاضرات فهو أقرب للبرامج التلفزيونية الحوارية، حيث تجد المحاضر يتجول وسط الجمهور ويتفاعل معه ويشرح له باستخدام الرسومات والأشكال التوضيحية، كما تتخلل المحاضرة عروض فنية تضفي عليها بهجة وإثارة. هذا النوع من المحاضرات هو السائد والمطلوب الآن.
من أشهر الشخصيات التي تخصصت في تقديم مثل هذا النوع الجديد من المحاضرات الآن البروفسور "مايكل ساندل" من جماعة هارفارد، الذي قدم أخيرا محاضرة تحت عنوان " العدالة: ما يجب أن يكون"، عندما حضر لكوريا في يونيو الماضي وقدم محاضرته في جامعة يونسي. قدم البروفسور ساندل محاضرته أمام حشد كبير لا يقل عن 15 ألفا في ساحة خارجية مفتوحة. وقد كانت محاضرة مفتوحة عبارة عن أسئلة وأجوبة مباشرة. وكان أفراد الجمهور الحاضرين يسألون ويستفسرون ويقدمون ملاحظات وتعليقات ومقترحات، وكان البروفسور يشاركهم ويشترك معهم في الحوارات والمناقشات بشكل مفتوح وطريف في أكثر الحالات. كانت المحاضرة ممتعة ومسلية لدرجة أنه لم يكن هناك من يرغب في إنهائها. كانت المحاضرة عبارة عن برنامج حواري مثل تلك البرامج الحوارية المنتشرة عالميا الآن والتي تُعرف باسم محاضرات "تيد" TED.
انتشار ظاهرة "تيد" أدى إلى انتشار ظاهرة المحاضرات والعروض المعرفية في كوريا حيث صار يشارك فيها، وبشكل متزايد، الكثير من النجوم والمشاهير في مختلف المجالات. وبسبب ذلك الانتشار تعددت أسماء وعناوين المحاضرات التي تحوّل اسمها إلى عروض، حيث إن كلمة "عرض" تضفي على الأمر شكلا أكثر تسلية وإثارة، مقارنة بكلمة "محاضرة".
كان أول عرض معرفي قدمه الدكتور "شين بيونغ تشول" في ال28 من شهر أغسطس الماضي في ضاحية في جنوب سيول. كان الموضوع هو كيفية التعليم في زمان الركود الاقتصادي الكبير، وهو كما يبدو موضوع كبير وجاد وثقيل على النفس. لكن المزاج العام خلال العرض المعرفي كان مختلفا عن ذلك، حيث سادت روح من المرح والارتياح، ولم تكن هناك أي مظاهر للملل طيلة العرض الذي استغرق أربع ساعات كاملة، حيث تخلل العرض المعرفي عروض من الرقص الشعبي والفقرات الفنية المتنوعة والمسلية. وقد بدا الجمهور مبتهجا وسعيدا.
شعبية العروض المعرفية والحوارية في تصاعد مستمر، وبدأت تجد طريقها للتلفزيونات والفضائيات. "كي بي إس" وحدها تقدم الآن برنامجين همـــــا : "محاضرة 100 درجة"، و"العرض الحواري : احلم"
المشاركون في تلك البرامج عادة ما يكونون من الأشخاص المتحمسين، فمقدم البرنامج قد يسأل أحد الحضور عن أشياء وتجارب، ويجيب المشارك بصراحة بناء على خلاصة تجاربه. البرنامج لا يكون طريقا في اتجاه واحد، وإنما فرصة للتفاعل والتجاوب.
مؤثرة، ملهمة، مثيرة، مسلية، ممتعة، هادفة، زاخرة بالمعلومات والمعارف، هذه كلها فقط بعض الأوصاف التي يمكن أن نطلقها على مثل تلك البرامج الحوارية. في هذا البرنامج الحوار كان الضيف الرئيسي هو عازف الجيتار "كيم تيه وان" قائد فرقة الروك "بوهوال". كيم هو موسيقي مشهور وملحّن لعدد من الأغنيات البديعة والناجحة، وقد قاد فرقته الفنية بمهارة وحِنكة على مدى 28 عاما. تحدث في البرنامج عن خبرة ثلاثين عاما في عالم الموسيقى وعن الكثير من الأحداث والتجارب التي تعرض لها خلال تلك المسيرة. سرد ما وقع له من أشياء سعيدة، وما تعرض له من أزمات ومِحَن، خلال تلك الحياة الحافلة بخيرها وشرّها. حدث كل ذلك بشكل تفاعلي تلقائي على السجية، وهو ما لا يحدث إلا في مثل هذه البرامج الحوارية المفتوحة.
كان موضوع الحلقة الحوارية التي شارك فيها كيم تحت عنوان "اليأس قد يكون مصدرا لأعظم المفاجآت". وقد أخبر كيم الجمهور بأن نجاحه لم يتحقق إلا بعد صراع مرير مع اليأس والفشل المتكرر. كان البرنامج رشيقا ومتنوعا مع وجود 4 من المقدمين من متنوعي المواهب والمهارات مثل الفنان الكوميدي كيم يونغ نام والفنان الساخر روه هونغ تشول والمغني كيم سي والكاتب لي هي يونغ.
المحاضرات ذات الاتجاه الواحد لا تمثل إلا جزءا واحدا من العرض المعرفي، ومقدم البرنامج نفسه لا يكون أشبه بالمحاضر كما في بعض الأشكال القديمة للبرامج التلفزيونية والإذاعية، فمقدم البرنامج هنا يكون منسقا ومديرا لعملية التواصل بين الضيوف والجمهور.
مفاهيم كثيرة هي التي تنبثق عن الشكل الجديد للبرامج الحوارية، منها التشارك والتعاطف والقدرة على الاستلهام والاستنتاج والاستنباط، وكلها أشياء قد تترك انطباعات عميقة داخل النفس. ومن خصوصية ذلك الشكل الجديد من العروض المعرفية إتاحة الفرصة للفنانين لمعرفة جمهورهم بعمق وعن كثب، مما يمنحهم الأفكار لتقديم ما يريده ذلك الجمهور حقا.
عدم توفر الثقة واليقين الكامل بالمستقبل شيء قد يدفعنا للبحث عن التواصل المباشر مع بعض رموز الحكمة، وطلب النصح والمشورة منهم، للمساعدة على توفير الحلول استنادا على تجارب مشابهة أو دروس سابقة. وهذه العروض المعرفية قد تكون أداة فعالة للتواصل من أجل الوصول لذلك الهدف المنشود.
[/size]