هل الحقيقة تقاس باعتبار النفع أم باعتبار الوضوح؟
طرح الإشكالية:
يختلف الباحثون في تصورهم لمعيار الحقيقة ومن أبرز المعايير التي اشتهرت في هذا الصدد معيار التطابق ومعيار الوضوح ومعيار النفع ومعيار الذات البشرية وانتشر القول في القرون الوسطى مع المدرسين ومحتواه أن الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع فالتفكير يكون صحيحا عندما يكون نسخة من الواقع والوفاء للنسخة بالنسبة للنموذج هو الذي يحدد الحقيقة إلا أن هذا التصور ليس دقيقا وليس واضحا كل الوضوح فهو يثير المشاكل أكثر مما يحلها ولذلك نكتفي بالبحث في المقاييس الأساسيين الوضوح أو البداهة والنفع أو النجاح فبالنسبة للعقليين يعتقدون أن معيار الحقيقة هو الوضوح أو البداهة في حين يرى البرغماتيون بأن مقياس الحقيقة هو النفع أو النجاح وعليه يمكننا طرح التساؤل التالي: هل الحقيقة تقاس باعتبار النفع أم باعتبار الوضوح؟
محاولة حل الإشكالية:
عرض منطوق المذهب الأول:الحقيقة تقاس باعتبار الوضوح ومن ممثلي هذا الطرح ديكارت،سبينوزا.
ضبط الحجة:يرى أصحاب هذا الطرح أن الحكم الصادق يحمل في طياته معيار صدقه وهو الوضوح الذي يرتفع فوق كل شيء ويتجلى هذا في البديهيات الرياضية التي تبدوا ضرورية واضحة بذاتها،كقولك الكل أكبر من الجزء أو إن الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين حيث كان ديكارت لا يقبل مطلقا أي شيء على أنه حق ما لم يتبين بالبداهة أنه كذالك ويعتقد بأنه يجب على الإنسان أن يتجنب الشرع والتشبث بالآراء السابقة وعليه أن يأخذ من أحكامه ما يمثله الفعل بوضوح تام وتمييز كامل بحيث لا يدع مجال للشك فيه وانتهى ديكارت إلى قضيته المشهورة "أنا أفكر إذن أنا موجود" فوجدها واضحة أمام جميع افتراضات صحيحة كل الصحة بالضرورة وهي تزيد صحة كلما نطق بها وأمعن النظر فيها ويقول لاحظت أنه لا شيء في قولي أنا أفكر إذن أنا موجود يضمن لي أني أقول الحقيقة إلا كوني أراه بكثير من الوضوح أن الوجوب واجب التفكير فحكمت بأني أستطيع اتخاذ قاعدة عامة لنفسي وهي أن الأشياء التي نتصورها تصورا بالغ الوضوح والتمييز هي صحيحة كلها ويقول "إني أشك ولكن مالا أستطيع الشك فيه هو أني أشك وأن الشك تفكير" ويساند هذا الطرح سبينوزا الذي يرى أنه ليس هناك معيار للحقيقة خارج عن الحقيقة فهل كما يقول أنه يمكن أن يكون شيء أكثر وضوحا ويقينا من الفكرة الصادقة يصلح أن يكون معيار الحقيقة؟ فكما أن النور يكشف عن نفسه وعن الظلمات كذلك الصدق هو معيار نفسه ومعيار الكذب والفكرة لا تكون صادقة إلا إذا كانت مطلقة تفرض نفسها على الجميع فالفكرة الصحيحة هي التي لا تتناقض مع مبادئ العقل الفطرية.
النقد:إن إرجاع الحقيقة كلها إلى الوضوح يجعلنا نلجئ إلى معيار ذاتي للحقيقة قد نحسب بأننا على صواب في أحكامنا على أساس البداهة والوضوح لكن قد يحدث أن يقف أحدنا بعد ذلك على خطأ وقد يحدث لأحدنا أن يرى بديهيا ما يتوافق مع تربيته وميوله واتجاهاته الفكرية. فالوضوح في هذه الحالة ليس محك الصواب وإنما توافق القضية المطروحة لميول الفرد وآرائه هو الذي يجعلها صحيحة وواضحة إنه مقياس ملتحم بالحياة السيكولوجية الذاتية والدليل على ذلك أن الكثير من الآراء تجلت صحتها وهي واضحة فترة من الزمن وقد أثبت التفكير بطلانها ولقد آمن الناس مدة طويلة بأن الأرض مركز الكون وأنها ثابتة تدور حولها سائر الكواكب ثم دحضت الأبحاث الدقيقة مثل هذا الاعتقاد الخاطئ بل أن البديهيات الرياضية قد ثبت اليوم أن الكثير منها يقوم على افتراضات ولو كان الشعور بالوضوح كافيا ليحمل العقول كلها على الأخذ بالقضايا الواضحة فلماذا تقابل الحقائق الجديدة في بداهة الأمر بغضب شديد كما هو الشأن بالنسبة لغاليلي الذي أعلن بأن الأرض ليست ثابتة وباستور الذي قام بمحاربة فكرة التولد العفوي إن الأفكار الواضحة في غالب الأحيان كما يقول أحد الفلاسفة "أفكار ميتة"إذن يمكن اعتبار الوضوح مقياس للحقيقة لكن هناك مقاييس أخرى.
عرض منطوق المذهب الثاني:الذي يرى أن الحقيقة تقاس باعتبار المنفعة ومن ممثلي هذا الطرح "بيرس،أوليام جيمس،جون ديوان".
الحجة:يرى أصحاب المذهب البرغماتي أن الحكم الصادق يحمل أن يكون صادقا متى دلت التجربة على أنه مقيد نظريا وعمليا وبذلك تعتبر المنفعة المحك الوحيد لتمييز صدق الأحكام من باطلها حيث يقول بيرس "إن الحقيقة تقاس بمعيار العمل المنتج"أي أن الفكرة خطة للعمل أو مشروع له وليست حقيقة في ذاتها، إن تصورنا لموضوع ما هو إلا تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر ويرى بيرس أن معيار الحقيقة هو المنفعة فالفكرة الصادقة هي التي تفيدني من الناحية العملية والفكرة الكاذبة هي التي تحقق لي نفعا، ويرى ويليام جيمس أن النتائج أو الأفكار التي تنتهي إليها الفكرة هي الدليل على صدقها أو مقياس صوابها وإذا أردنا أن نحصل على فكرة واضحة لموضوع ما علينا إلا ننظر إلى الآثار العملية التي نعتقد أنه قادر على أن يؤدي إليها والنتائج التي ننتظرها منه ورد الفعل الضار الذي ينجم عنه والذي يجب أن نتخذ الحيطة بإزائه ومعنى هذا أن الحق لا يوجد أبدا منفصل عن الفعل أو السلوك فنحن لا نفكر في الخلاء وإنما نفكر لنعيش وليس ثمة حقائق مطلقة بل هناك مجموعة متنوعة ومختلفة ومتعددة من الحقائق التي ترتبط بمنافع كل فرد منا في حياته ويقول وليام جيمس"إن كل ما يؤدي إلى النجاح فهو حقيقي وأن كل ما يعطينا أكبر قسط من الراحة وما هو صالح لأفكارنا ومفيد لنا بأي حال من الأحوال فهو حقيقي "ويضيف "الحق ليس إلا التفكير الملائم للغاية كم أن الصواب ليس إلا الفعل الملائم للسلوك"أي أن معيار الحقيقة هو النجاح كما يضرب جيمس مثالا فيقول "يمكنك أن تعتبر العدد27 مكعب العدد03 أو حاصل ضرب9×3 أو حاصل جمع 26 +1 أو باقي طرح 73 من 100 أو بطرق لا نهاية لها وكلها صادقة"ويرى جون ديوان أن الفكرة مشروع عمل والحقيقة تعرف من خلال نتائجها والأفكار الحقيقية أدوات ناجحة لمواجهة مشكلات الحياة،فالفكرة الدينية حقيقة إذا كانت تحقق للنفس الإنسانية منفعة كالطمأنينة والسعادة والفكرة الاقتصادية حقيقة إذا كانت تحقق الرفاهية المادية فالأشياء تكون حقيقة حسب المنفعة التي تستهدفها وتحققها إذن معيار الحقيقة حسب البرغماتية هو الغايات والنتائج وليس المبادئ والأولويات فالعمل يقاس بنتائجه وهكذا تعرف البرغماتية الحقيقة وتحولها من حقيقة الفكر إلى حقيقة العمل.
النقد:إن معيار الحقيقة إلى النجاح ( المنفعة ) ليس أكثر تجديدا من القول بمعيار الوضوح لأن القول بمعيار النجاح قول سلبي عن الحقيقة وليس قولا إيجابيا،ذلك أن أنصار البرغماتية إنطلقوا من أن القضايا التي لها آثار عملية قضايا حقيقية أو صحيحة لكن ما يعاب عليهم أنهم أخلطوا بين المجال النظري والمجال العملي بدليل أن هناك أفكار نافعة ولكنها غير مطبقة وهناك أفكار غير نافعة ولكنها مطبقة ثم إن مقياس الحقيقة لا يمكن أن يكون المنفعة كما يقر البرغماتيون لأن الحقيقة التي تؤكدها نتائجها ومنافعها هي قبل كل شيء مسألة ذاتية متقلبة من فرد لآخر ومتعارضة بين هذا أو ذاك ما دامت المصالح متعارضة. فكيف يبني العلم ما يؤسس على مبادئ ؟ ثم أن مفهوم المنفعة واسع جدا هل هي منفعة الفرد خاص الذي يفكر أم منفعة الجماعة ومن هي هذه الجماعة وما هي حدودها؟ وفي حالة عدم دقة المفهوم تتضارب المنافع وتتناقض ثم إن هذا المذهب يرفض الحقيقة المطلقة.
التجاوز:إن معيار الحقيقة لا يمكن حصره في الميدان الذي يرتضيه أنصار الوضوح أو تأسيسه على أساس المنفعة كما زعمت البرغماتية فمعيار الحقيقة هو الوضوح والمنفعة وإن كلا المعيارين نسبي ومحدود ومعرض للتغيير وهناك من تجاوز هذا الطرح وهم أصحاب المذهب الوجودي الذين يقرون بأن مجال الحقيقة الأول هو الإنسان المشخص في هذا الوجود الحسي كما يرى سارتر وليس الوجود المجرد كما ترى الفلسفات الكلاسيكية وحقيقة الإنسان هي في إنجاز ماهيته لأنه في بداية الأمر لا يمتلك ماهيته فهو محكوم عليه بأن يختار مصيره ولكنه أيضا محكوم عليه بأن يموت والحقيقة الأولى إلي يجب التركيز عليها هي ممارسة هذه التجربة التي تجمع بين الحياة والموت وما ينتج عنهما من محن القلق والآلام وثقل المسؤولية.
الخاتمة :إن معيار الحقيقة يبقى في النهاية معيار نسبي منزه من كل ما من شأنه أن يحصر الحقيقة في إطار ذاتي ( الوضوح ) أو إطار نفعي مادي إنه في كلمة وجيزة الموضوعية العالية الثابتة مع العلم أن الحقيقة أنواع كالحقيقة الرياضية التي يرتد معيارها الموضوعي إلى إثباط الحقائق الجزئية من المقدمات الأولية والحقيقة العلمية أو الفيزيائية التي يعود معيارها إلى التجربة.